فصل: قول المتأخرين‏:‏ إن تعلم المنطق فرض على الكفاية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


 فصـــل

وأما قولهم‏:‏ الاستدلال لابد فيه من مقدمتين بلا زيادة ولا نقصان، فهذا قول باطل طردًا وعكسا، وذلك أن احتياج المستدل إلى المقدمات مما يختلف فيه حال الناس، فمن الناس من لا يحتاج إلا إلى مقدمة واحدة لعلمه بما سوى ذلك، كما أن منهم من لا يحتاج في علمه بذلك إلى استدلال، بل قد يعلمه بالضرورة ومنهم من يحتاج إلى مقدمتين، ومنهم من يحتاج إلى ثلاث، ومنهم من يحتاج إلى أربع وأكثر، فمن أراد أن يعرف أن هذا المسكر المعين محرم، فإن كان يعرف أن كل مسكر محرم، ولكن لا يعرف هل هذا المسكر المعين يسكر أم لا، لم يحتج إلا إلى مقدمة واحدة، وهو أن يعلم أن هذا مسكر، فإذا قيل له‏:‏ هذا حرام، فقال‏:‏ ما الدليل عليه‏؟‏ فقال المستدل‏:‏ الدليل على ذلك أنه مسكر، تم المطلوب‏.‏

وكذلك لو تنازع اثنان في بعض أنواع الأشربة‏:‏ هل هو مسكر أم لا‏؟‏ / كما يسأل الناس كثيرًا عن بعض الأشربة ولا يكون السائل ممن يعلم أنها تسكر أو لا تسكر، ولكن قد علم أن كل مسكر حرام، فإذا ثبت عنده بخبر من يصدقه أو بغير ذلك من الأدلة أنه مسكر علم تحريمه، وكذلك سائر ما يقع الشك في اندراجه تحت قضية كلية من الأنواع والأعيان، مع العلم بحكم تلك القضية كتنازع الناس في النرد والشطرنج‏:‏ هل هما من الميسر أم لا‏؟‏ وتنازعهم في النبيذ المتنازع فيه، هل هو من الخمر أم لا‏؟‏ وتنازعهم في الحلف بالنذر والطلاق والعتاق، هل هو داخل في قوله‏:‏ ‏{‏قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ ‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏2‏]‏ أم لا‏؟‏ وتنازعهم في قوله‏:‏ ‏{‏أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏237‏]‏ هل هو الزوج أو الولي المستقل‏؟‏ وأمثال ذلك‏.‏

وقد يحتاج الاستدلال إلى مقدمتين، لمن لم يعلم أن النبيذ المسكر المتنازع فيه محرم، ولم يعلم أن هذا المعين مسكر، فهو لا يعلم أنه محرم، حتى يعلم أنه مسكر، ويعلم أن كل مسكر حرام‏.‏ وقد يعلم أن هذا مسكر، ويعلم أن كل مسكر خمر، لكن لم يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم الخمر؛ لقرب عهده بالإسلام، أو لنشأته بين جهال أو زنادقة يشكون في ذلك، أو يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏كل مسكر حرام‏)‏ أو يعلم أن هذا خمر، وأن النبي صلى الله عليه وسلم حرم الخمر، لكن لم يعلم أن محمدًا رسول الله، أو لم يعلم أنه حرمها على جميع المؤمنين، بل ظن أنه أباحها لبعض الناس، فظن أنه منهم، كمن ظن أنه أباح شربها للتداوي أو غير ذلك‏.‏ فهذا لا يكفيه في العلم / بتحريم هذا النبيذ المسكر تحريمًا عامًا، إلا أن يعلم أنه مسكر وأنه خمر، وأن النبي صلى الله عليه وسلم حرم كل مسكر، وأنه رسول الله حقًا، فما حرمه حرمه الله، وأنه حرمه تحريمًا عامًا لم يبحه للتداوي أو للتلذذ‏.‏

ومما يبين أن تخصيص الاستدلال بمقدمتين باطل، أنهم قالوا في حد القياس الذي يشمل البرهاني والخطابي والجدلي والشعري والسوفسطائي‏:‏ إنه قول مؤلف من أقوال، أو عبارة عما ألف من أقوال، إذا سلمت لزم عنها لذاتها قول آخر، قالوا‏:‏ واحترزنا بقولنا‏:‏ من أقوال، عن القضية الواحدة التي تستلزم لذاتها صدق عكسها وعكس نقيضها، وكذب نقيضها وليست قياسًا‏.‏ قالوا‏:‏ ولم نقل‏:‏ مؤلف من مقدمات؛ لأنا لا يمكننا تعريف المقدمة ـ من حيث هي مقدمة ـ إلا بكونها جزء القياس‏.‏ فلو أخذناها في حد القياس كان دورًا، والقضية الخبرية إذا كانت جزء القياس سموها مقدمة، وإن كانت مستفادة بالقياس سموها نتيجة، وإن كانت مجردة عن ذلك سموها قضية، وتسمى ـ أيضًا ـ قضية مع تسميتها نتيجة ومقدمة، وهي الخبر وليست هي المبتدأ والخبر في اصطلاح النحاة، بل أعم منه، فإن المبتدأ والخبر لا يكون إلا جملة إسمية والقضية تكون جملة إسمية وفعلية، كما لو قيل‏:‏ قد كذب زيد، ومن كذب استحق التعزير ‏.‏

والمقصود هنا أنهم أرادوا بالقول ـ في قولهم‏:‏ القياس قول مؤلف من أقوال ـ القضية التي هي جملة تامة خبرية، لم يريدوا بذلك المفرد الذي هو / الحد، فإن القياس مشتمل على ثلاثة حدود‏:‏ أصغر وأوسط وأكبر، كما إذا قيل‏:‏ النبيذ المتنازع فيه مسكر، وكل مسكر حرام، فالنبيذ والمسكر والحرام كل منها مفرد، وهي الحدود في القياس‏.‏ فليس مرادهم بالقول هذا، بل مرادهم‏:‏ أن كل قضية قول، كما فسروا مرادهم بذلك‏.‏

ولهذا قالوا‏:‏ القياس قول مؤلف من أقوال، إذا سلمت لزم عنها لذاتها قول آخر‏.‏ واللازم إنما هي النتيجة، وهي قضية وخبر وجملة تامة وليست مفردًا‏.‏ ولذلك قالوا‏:‏ القياس قول مؤلف؛ فسموا مجموع القضيتين قولا، وإذا كانوا قد جعلوا القياس مؤلفًا من أقوال ـ وهي القضايا ـ لم يجب أن يراد بذلك قولان فقط؛ لأن لفظ الجميع إما أن يكون متناولا للاثنين فصاعدا كقوله‏:‏ ‏{‏فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏11‏]‏، وإما أن يراد به الثلاثة فصاعدًا، وهو الأصل عند الجمهور‏.‏ ولكن قد يراد به جنس العدد، فيتناول الاثنين فصاعدا ، ولا يكون الجمع مختصًا باثنين‏.‏

فإذا قالوا‏:‏ هو مؤلف من أقوال، إن أرادوا جنس العدد كان هذا المعنى من اثنين فصاعدًا، فيجوز أن يكون مؤلفا من ثلاث مقدمات وأربع مقدمات، فلا يختص بالاثنين، وإن أرادوا الجمع الحقيقي، لم يكن مؤلفًا إلا من ثلاث فصاعدًا، وهم قطعًا ما أرادوا هذا، لم يبق إلا الأول‏.‏

فإذا قيل‏:‏ هم يلتزمون ذلك‏.‏ ويقولون‏:‏ نحن نقول‏:‏ أقل ما يكون القياس / من مقدمتين، وقد يكون من مقدمات‏.‏

فيقال‏:‏ ولا هذا خلاف ما في كتبكم، فإنكم لا تلتزمون إلا مقدمتين فقط‏.‏ وقد صرحوا أن القياس الموصل إلى المطلوب، سواء كان اقترانيًا أو استثنائيًا، لا ينقص عن مقدمتين ولا يزيد عليهما، وعللوا ذلك بأن المطلوب المتحد لا يزيد على جزأين مبتدأ وخبر‏.‏

فإن كان القياس اقترانيًا، فكل واحد من جزأي المطلوب لابد وأن يناسب مقدمة منه‏.‏ أي يكون فيها إما مبتدأ وإما خبرًا، ولا يكون هو نفس المقدمة ‏.‏

قالوا‏:‏ وليس للمطلوب أكثر من جزأين‏.‏ فلا يفتقر إلى أكثر من مقدمتين‏.‏ وإن كان القياس استثنائيًا فلابد فيه من مقدمة شرطية متصلة أو منفصلة تكون مناسبة لكل المطلوب أو نقيضه، فلابد من مقدمة استثنائية فلا حاجة إلى ثالثة‏.‏

قالوا‏:‏ لكن ربما أدرج في القياس قول زائد على مقدمتي القياس، إما غير متعلق بالقياس أو متعلق به، والمتعلق بالقياس إما لترويج الكلام وتحسينه أو لبيان المقدمتين أو إحداهما، ويسمون هذا القياس المركب‏.‏

قالوا‏:‏ وحاصله يرجع إلى أقيسة متعددة سيقت لبيان مطلوب واحد، إلا أن القياس المبين للمطلوب بالذات منها ليس إلا واحدًا، والباقي / لبيان مقدمات القياس، قالوا‏:‏ ربما حذفوا بعض مقدمات القياس إما تعويلًا على فهم الذهن لها أو لترويج المغلطة؛ حتى لا يطلع على كذبها عند التصريح بها‏.‏

قالوا‏:‏ ثم إن كانت الأقيسة لبيان المقدمات، قد صرح فيها بنتائجها، فيسمى القياس مفصولًا وإلا فموصول، ومثلوا الموصول بقول القائل‏:‏ كل إنسان حيوان، وكل حيوان جسم، وكل جسم جوهر، فكل إنسان جوهر‏.‏ والمفصول بقولهم‏:‏ كل إنسان حيوان، وكل حيوان جسم، فكل إنسان جسم‏.‏ ثم يقول‏:‏ كل حيوان جسم، وكل جسم جوهر، فكل إنسان حيوان، فيلزم منهما أن كل إنسان جوهر‏.‏

فيقال لهم‏:‏ أما المطلوب الذي لا يزيد على جزأين فذاك في المنطوق به‏.‏ والمطلوب في العقل إنما هو شيء واحد لا اثنان، وهو ثبوت النسبة الحكمية أو انتفاؤها‏.‏ وإن شئت قلت‏:‏ اتصاف الموصوف بالصفة نفيًا أو إثباتًا، وإن شئت قلت‏:‏ نسبة المحمول إلى الموضوع والخبر إلى المبتدأ نفيًا وإثباتًا، وأمثال ذلك من العبارات الدالة على المعنى الواحد المقصود بالقضية‏.‏ فإذا كانت النتيجة أن النبيذ حرام أو ليس بحرام، أو الإنسان حساس أو ليس بحساس ونحو ذلك، فالمطلوب ثبوت التحريم للنبيذ أو انتفاؤه، وكذلك ثبوت الحس للإنسان أو انتفاؤه‏.‏ والمقدمة الواحدة إذا ناسبت ذلك / المطلوب حصل بها المقصود‏.‏ وقولنا النبيذ خمر يناسب المطلوب، وكذلك قولنا الإنسان حيوان‏.‏

فإذا كان الإنسان يعلم أن كل خمر حرام، ولكن يشك في النبيذ المتنازع فيه، هل يسمى في لغة الشارع خمرًا ‏؟‏ فقيل‏:‏ النبيد حرام؛ لأنه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏ كل مسكر خمر‏)‏ كانت القضية وهي قولنا‏:‏ قد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن كل مسكر خمر‏)‏‏:‏ يفيد تحريم النبيذ؛ وإن كان نفس قوله قد تضمن قضية أخرى‏.‏ والاستدلال بذلك مشروط بتقديم مقدمات معلومة عند المستمع، وهي أن ما صححه أهل العلم بالحديث، فقد وجب التصديق بأن النبي صلى الله عليه وسلم قاله، وأن ما حرمه الرسول صلى الله عليه وسلم فهو حرام ونحو ذلك‏.‏ فلو لزم أن نذكر كل ما يتوقف عليه العلم، وإن كان معلومًا، كانت المقدمات أكثر من اثنتين، بل قد تكون أكثر من عشر‏.‏

وعلى ما قالوه، فينبغي لكل من استدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول‏:‏ النبي حرم ذلك، وما حرمه فهو حرام، فهذا حرام، وكذلك يقول‏:‏ النبي أوجبه، وما أوجبه النبي فقد وجب، فإذا احتج على تحريم الأمهات والبنات ونحو ذلك، يحتاج أن يقول‏:‏ إن الله حرم هذا في القرآن وما حرمه الله فهو حرام‏.‏ وإذا احتج على وجوب الصلاة والزكاة والحج بمثل قول الله‏:‏ ‏{‏وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 97‏]‏، يقول‏:‏ إن الله أوجب الحج في / كتابه، وما أوجبه الله فهو واجب‏.‏ وأمثال ذلك مما يعتبره العقلاء لُكْنة وعِيّا وإيضاحًا للواضح، وزيادة قول لا حاجة إليها‏.‏

وهذا التطويل الذي لا يفيد في قياسهم نظير تطويلهم في حدودهم؛ كقولهم في حد الشمس‏:‏ إنها كوكب تطلع نهارًا‏.‏ وأمثال ذلك من الكلام الذي لا يفيد إلا تضييع الزمان، وإتعاب الأذهان، وكثرة الهذيان‏.‏ ثم إن الذين يتبعونهم في حدودهم وبراهينهم لا يزالون مختلفين في تحديد الأمور المعروفة بدون تحديدهم، ويتنازعون في البرهان على أمور مستغنية عن براهينهم‏.‏

وقولهم‏:‏ ليس للمطلوب أكثر من جزأين، فلا يفتقر إلى أكثر من مقدمتين، فيقال‏:‏ إن أردتم ليس له إلا اسمان مفردان، فليس الأمر كذلك، بل قد يكون التعبير عنه بأسماء متعددة، مثل من شك في النبيذ؛ هل هو حرام بالنص أم ليس حرامًا لا بنص ولا قياس‏؟‏ فإذا قال المجيب‏:‏ النبيذ حرام بالنص، كان المطلوب ثلاثة أجزاء، وكذلك لو سأل‏:‏ هل الإجماع دليل قطعي‏؟‏ فقال‏:‏ الإجماع دليل قطعي، كان المطلوب ثلاثة أجزاء، وإذا قال‏:‏ هل الإنسان جسم حساس نام متحرك بالإرادة ناطق أم لا‏؟‏ فالمطلوب هنا ستة أجزاء‏.‏

وفي الجملـة، فالموضـوع والمحمول الذي هو مبتدأ وخبر، وهو جملة خبرية، قد تكون جملة مركبــة من لفظين، وقد تكون من ألفاظ متعــددة إذا كــان / مضمونها مقيدًا بقيود كثيرة، مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 100‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 218‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنْكُمْ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 75‏]‏، وأمثال ذلك من القيود التي يسميها النحاة الصفات والعطف والأحوال وظرف المكان وظرف الزمان ونحو ذلك‏.‏

وإذا كانت القضية مقيدة بقيود كثيرة لم تكن مؤلفة من لفظين، بل من ألفاظ متعددة ومعان متعددة، وإن أريد أن المطلوب ليس إلا معنيان، سواء عبر عنهما بلفظين أو ألفاظ متعددة، قيل‏:‏ وليس الأمر كذلك، بل قد يكون المطلوب معنى واحدًا، وقد يكون معنيين، وقد يكون معان متعددة، فإن المطلوب بحسب طلب الطالب، وهو الناظر المستدل والسائل المتعلم المناظر، وكل منهما قد يطلب معنى واحدًا، وقد يطلب معنيين، وقد يطلب معاني، والعبارة عن مطلوبه، قد تكون بلفظ واحد، وقد تكون بلفظين وقد تكون بأكثر‏.‏ فإذا قال‏:‏ النبيذ حرام، فقيل له‏:‏ نعم، كان هذا اللفظ وحده كافيًا في جوابه، كما لو قيل له‏:‏ هو حرام‏.‏

فإن قالوا‏:‏ القضية الواحدة قد تكون في تقدير قضايا، كما ذكرتموه من التمثيل بالإنسان، فإن هذه القضية الواحدة في تقدير خمس قضايا وهي خمس مطالب، والتقدير‏:‏ هل هو جسم أم لا‏؟‏ وهل هو حساس أم لا‏؟‏ وهل / هو نام أم لا‏؟‏ وهل هو متحرك أم لا‏؟‏ وهل هو ناطق أم لا‏؟‏وكذلك فيما تقدم‏:‏ هل النبيذ حرام أم لا‏؟‏ وإذا كان حرامًا فهل تحريمه بالنص أو بالقياس ‏؟‏ فيقال‏:‏ إذا رضيتم بمثل هذا وهو أن تجعلوا الواحد في تقدير عدد، فالمفرد قد يكون في معنى قضية، فإذا قال‏:‏ النبيذ المسكر حرام فقال المجيب‏:‏ نعم، فلفظ ‏[‏نعم‏]‏ في تقدير قوله‏:‏ هو حرام؛ وإن قال‏:‏ ما الدليل عليه‏؟‏ فقال‏:‏ تحريم كل مسكر أو أن كل مسكر حرام، وقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كل مسكر حرام‏)‏ ونحو ذلك من العبارات التي جعل الدليل فيها اسمًا مفردًا، وهو جزء واحد، لم يجعله قضية مؤلفة من اسمين مبتدأ وخبر، فإن قوله‏:‏ تحريم كل مسكر اسم مضاف‏.‏ وقوله‏:‏ ‏(‏أن كل مسكر حرام‏)‏ بالفتح مفرد أيضًا، فإن أن وما في خبرها في تقدير المصدر المفرد، وإن المكسورة وما في خبرها جملة تامة‏.‏

وكذلك إذا قلت‏:‏ الدليل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم، أو الدليل عليه النص، أو إجماع الصحابة، أو الدليل عليه الآية الفلانية، أو الحديث الفلاني، أو الدليل عليه قيام المقتضي للتحريم السالم عن المعارض المقاوم، أو الدليل عليه أنه مشارك لخمر العنب فيما يستلزم التحريم، وأمثال ذلك فيما يعبر فيه عن الدليل باسم مفرد لا بالقضية التي هي جملة تامة‏.‏

ثم هذا الدليل الذي عبر عنه باسم مفرد هو إذا فصل عبر عنه بألفاظ متعددة‏.‏

/والمقصود أن قولكم‏:‏ إن الدليل الذي هو القياس لا يكون إلا جزأين فقط، إن أردتم لفظين فقط، وأن ما زاد على لفظين فهو أدلة لا دليل واحد؛ لأن ذلك اللفظ الموصوف بصفات تحتاج كل صفة إلى دليل‏.‏

قيل لكم‏:‏ وكذلك يمكن أن يقال في اللفظين‏:‏ هما دليلان لا دليل واحد، فإن كل مقدمة تحتاج إلى دليل، وحينئذ فتخصيص العدد باثنين دون ما زاد تحكم لا معنى له، فإنه إذا كان المقصود قد يحصل بلفظ مفرد وقد لا يحصل إلا بلفظين وقد لا يحصل إلا بثلاثة أو بأربعة وأكثر، فجعل الجاعل اللفظين هما الأصل الواجب دون ما زاد وما نقص، وأن الزائد إن كان في المطلوب جعل مطالب متعددة، وإن كان في الدليل تذكر مقدمات، جعل ذلك في تقدير أقيسة متعددة تحكم محض، ليس هو أولى من أن يقال‏:‏ بل الأصل في المطلوب أن يكون واحدًا ودليله جزءًا واحدًا، فإذا زاد المطلوب على ذلك جعل مطلوبين، أو ثلاثة أو أربعة بحسب دلالته، وهذا إذا قيل، فهو أحسن من قولهم؛ لأن اسم الدليل مفرد فيجعل معناه مفردًا، والقياس هو الدليل‏.‏

ولفظ ‏[‏القياس‏]‏ يقتضي التقدير، كما يقال‏:‏ قست هذا بهذا، والتقدير يحصل بواحد؛ وإذا قدر باثنين وثلاثة يكون تقديرين وثلاثة لا تقديرًا واحدًا، فتكون تلك التقديرات أقيسة لا قياسًا واحدًا، فجعلهم ما زاد على الاثنين من المقدمات في معنى أقيسة متعددة، وما نقص عن الاثنين نصف / قياس لا قياس تام، اصطلاح محض لا يرجع إلى معنى معقول، كما فرقوا بين الصفات الذاتية والعرضية اللازمة للماهية والوجود بمثل هذا التحكم‏.‏

وحينئذ، فيعلم أن القوم لم يرجعوا فيما سموه حدًا وبرهانًا إلى حقيقة موجودة ولا أمر معقول، بل إلى اصطلاح مجرد، كتنازع الناس في ‏[‏العلة‏]‏، هل هي اسم لما يستلزم المعلول بحيث لا يتخلف عنها بحال فلا يقبل النقيض والتخصيص، أو هو اسم لما يكون مقتضيًا للمعلول، وقد يتخلف عنه المعلول لفوات شرط أو وجود مانع، وكاصطلاح بعض أهل النظر والجدل في تسمية أحدهم ‏[‏الدليل‏]‏ لما هو مستلزم للمدلول مطلقًا، حتى يدخل في ذلك عدم المعارض، والآخر يسمى الدليل لما كان من شأنه أن يستلزم المدلول، وإنما يتخلف استلزامه لفوات شرط أو وجود مانع‏.‏ وتنازع أهل الجدل، هل على المستدل أن يتعرض في ذكر الدليل لتبيين المعارض جملة أو تفصيلا حيث يمكن التفصيل، أو لا يتعرض لا جملة ولا تفصيلا، أو يتعرض لتبيينه جملة لا تفصيلا‏.‏

وهذه أمور وضعية اصطلاحية بمنزلة الألفاظ التي يصطلح عليها الناس للتعبير عما في أنفسهم ليست حقائق ثابتة في أنفسها لأمور معقولة تتفق فيها الأمم كما يدعية هؤلاء في منطقهم، بل هؤلاء الذين يجعلون العلة والدليل يراد به هذا أو هذا أقرب إلى المعقول من جعل هؤلاء الدليل لا يكون إلا من مقدمتين، فإن هذا تخصيص لعدد دون عدد بلا موجب، وأولئك / لحظوا صفات ثابتة في العلة والدليل، وهو وصف التمام أو مجرد الاقتضاء، فكان ما اعتبره أولئك أولى بالحق والعقل مما اعتبره هؤلاء، الذين لم يرجعوا إلا إلى مجرد التحكم‏.‏

ولهذا كان العقلاء العارفون يصفون منطقهم بأنه أمر اصطلاحي، وضعه رجل من اليونان، لا يحتاج إليه العقلاء، ولا طلب العقلاء للعلم موقوفًا عليه كما ليس موقوفًا على التعبير بلغاتهم، مثل‏:‏ فيلاسوفيا، وسوفسطيقا، وأنولوطيقا وآثولوجيا، وقاطيغورياس، ونحو ذلك من لغاتهم التي يعبرون بها عن معانيهم فلا يقول أحد‏:‏ إن سائر العقلاء محتاجون إلى هذه اللغة‏.‏ لا سيما من كرمه الله بأشرف اللغات الجامعة لأكمل مراتب البيان المبينة لما تتصوره الأذهان بأوجز لفظ وأكمل تعريف‏.‏

 وهذا مما احتج به أبو سعيد السيرافي في مناظرته المشهورة لـ ‏[‏متى‏]‏ الفيلسوف؛ لما أخذ ‏[‏متى‏]‏ يمدح المنطق، ويزعم احتياج العقلاء إليه، ورد عليه أبو سعيد بعدم الحاجة إليه، وأن الحاجة إنما تدعو إلى تعلم العربية؛ لأن المعاني فطرية عقلية لا تحتاج إلى اصطلاح خاص بخلاف اللغة المتقدمة التي يحتاج إليها في معرفة ما يجب معرفته من المعاني، فإنه لابد فيها من التعلم، ولهذا كان تعلم العربية ـ التي يتوقف فهم القرآن والحديث عليها ـ فرضًا على الكفاية بخلاف المنطق‏.‏

/ ومن قال من المتأخرين‏:‏ إن تعلم المنطق فرض على الكفاية، أو أنه من شروط الاجتهاد، فإنه يدل على جهله بالشرع، وجهله بفائدة المنطق‏.‏ وفساد هذا القول معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، فإن أفضل هذه الأمة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين عرفوا ما يجب عليهم ويكمل علمهم وإيمانهم قبل أن يعرف المنطق اليوناني، فكيف يقال‏:‏ إنه لا يوثق بالعلم إن لم يوزن به، أو يقال‏:‏ إن فطر بني آدم في الغالب لم تستقم إلا به‏؟‏‏!‏

فإن قالوا‏:‏ نحن لا نقول‏:‏ إن الناس يحتاجون إلى اصطلاح المنطقيين، بل إلى المعاني التي توزن بها العلوم‏.‏

قيل‏:‏ لا ريب أن المجهول لا يعرف إلا بالمعلومات، والناس يحتاجون إلى أن يزنوا ما جهلوه بما علموه، وهذا من الموازين التي أنزلها الله، حيث قال‏:‏ ‏{‏اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 17‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 25‏]‏‏.‏ وهذا موجود عند أمتنا وغير أمتنا، ممن لم يسمع قط بمنطق اليونان، فعلم أن الأمم غير محتاجة إلى المعاني المنطقية التي عبروا عنها بلسانهم، وهو كلامهم في المعقولات الثانية، فإن ‏[‏ موضوع المنطق‏]‏ هو المعقولات من حيث يتوصل بها إلى علم ما لم يعلم فإنه ينظر في أحوال المعقولات الثانية، وهي النسب الثانية للماهيات من حيث هي مطلقة عرض لها، إن كانت موصلة إلى تحصيل ما ليس بحاصل، أو معينة في ذلك لا على وجه جزئي، بل على قانون كلي ويدعون أن صاحب المنطق ينظر في جنس الدليل، كما / أن صاحب أصول الفقه ينظر في الدليل الشرعي ومرتبته، فيميز ما هو دليل شرعي وما ليس بدليل شرعي‏.‏ وينظر في مراتب الأدلة حتى يقدم الراجح على المرجوح عند التعارض‏.‏ وهم يزعمون أن صاحب المنطق ينظر في الدليل المطلق الذي هو أعم من الشرعي، ويميز بين ما هو دليل وما ليس بدليل، ويدعون أن نسبة منطقهم إلى المعاني؛ كنسبة العروض إلى الشعر، وموازين الأموال إلى الأموال، وموازين الأوقات إلى الأوقات، وكنسبة الذراع إلى المذروعات‏.‏

وهذا هو الذي قال جمهور علماء المسلمين وغيرهم من العقلاء أنه باطل؛ فإن منطقهم لا يميز بين الدليل وغير الدليل، لا في صورة الدليل ولا في مادته، ولا يحتاج أن توزن به المعاني، بل ولا يصح وزن المعاني به، بل هذه الدعوى من أكذب الدعاوي‏.‏

والكلام معهم إنما هو في المعاني التي وضعوها في المنطق، وزعموا أن التصورات المطلوبة لا تنال إلا بها، والتصديقات المطلوبة لا تنال إلا بها، فذكروا لمنطقهم أربع دعاوي‏:‏ دعوتان سالبتان، ودعوتان موجبتان‏.‏

ادعوا أنه لا تنال التصورات بغير ما ذكروه فيه من الطريق وأن التصديقات لا تنال بغير ما ذكروه فيه من الطريق، وهاتان الدعوتان من أظهر الدعاوى كذبا ، وادعوا أن ما ذكروه من الطريق يحصل به تصور الحقائق التي لم تكن متصورة، وهذا ـ أيضا ـ باطل‏.‏ وقد تقدم التنبية على هذه الدعاوي الثلاثة، وسيأتي/ الكلام على دعواهم الرابعة التي هي أمثل من غيرها، وهي دعواهم أن برهانهم يفيد العلم التصديقي‏.‏

وإن قالوا‏:‏ إن العلم التصديقي أو التصوري ـ أيضًا ـ لا ينال بدونه، فهم ادعوا أن طرق العلم على عقلاء بني آدم مسدودة إلا من الطريقتين اللتين ذكروهما من الحد، وما ذكروه من القياس‏.‏‏.‏ وادعوا أن ما ذكروه من الطريقتين توصلان إلى العلوم التي ينالها بنو آدم بعقولهم، بمعنى أن ما يوصل لابد أن يكون على الطريق الذي ذكروه لا على غيره، فما ذكروه آلة قانونية بها توزن الطرق العلمية، ويميز بها بين الطريق الصحيحة والفاسدة، فمراعاة هذا القانون تعصم الذهن أن يزل في الفكر الذي ينال به تصور أو تصديق‏.‏

هذا ملخص ما قالوه‏.‏

وكل هذه الدعاوى كذب في النفي والإثبات، فلا ما نفوه من طرق غيرهم كلها باطل، ولا ما أثبتوه من طرقهم كلها حق على الوجه الذي ادعوا فيه، وإن كان في طرقهم ما هو حق، كما أن في طرق غيرهم ما هو باطل، فما من أحد منهم ولا من غيرهم يصنف كلاما إلا ولابد أن يتضمن ما هو حق‏.‏ فمع اليهود والنصاري من الحق بالنسبة إلى مجموع ما معهم أكثر مما مع هؤلاء من الحق، بل ومع المشركين عباد الأصنام من العرب ونحوهم من الحق أكثر مما مع / هؤلاء بالنسبة إلى ما معهم في مجموع فلسفتهم النظرية والعملية للأخلاق والمنازل والمدائن‏.‏

ولهذا كان اليونان مشركين كفارًا يعبدون الكواكب والأصنام، شرًا من اليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل بكثير، ولولا أن الله منَّ عليهم بدخول دين المسيح إليهم، فحصل لهم من الهدي والتوحيد ما استفادوه من دين المسيح، ما داموا متمسكين بشريعته قبل النسخ والتبديل، لكانوا من جنس أمثالهم من المشركين، ثم لما غيرت ملة المسيح صاروا في دين مركب من حنيفية وشرك بعضه حق وبعضه باطل، وهو خير من الدين الذي كان عليه أسلافهم‏.‏

وكلامنا هنا في ‏[‏بيان ضلال هؤلاء المتفلسفة‏]‏ الذين يبنون ضلالهم بضلال غيرهم، فيتعلقون بالكذب في المنقولات وبالجهل في المعقولات، كقولهم‏:‏ إن أرسطو وزير ذي القرنين المذكور في القرآن؛ لأنهم سمعوا أنه كان وزير الإسكندر، وذو القرنين يقال له‏:‏ الإسكندر‏.‏ وهذا من جهلهم، فإن الإسكندر الذي وزر له أرسطو هو ابن فيلبس المقدوني، الذي يؤرخ له تاريخ الروم المعروف عند اليهود والنصارى، وهو إنما ذهب إلى أرض القدس، لم يصل إلى السد عند من يعرف أخباره، وكان مشركا يعبد الأصنام، وكذلك أرسطو وقومه كانوا مشركين يعبدون الأصنام وذو القرنين كان موحدًا مؤمنا بالله‏.‏ وكان متقدما على هذا، ومن يسميه الإسكندر يقول‏:‏ هو الإسكندر بن دارا‏.‏

/ولهذا كان هؤلاء المتفلسفة إنما راجوا على أبعد الناس عن العقل والدين ، كالقرامطة والباطنية، الذين ركبوا مذهبهم من فلسفة اليونان ودين المجوس وأظهروا الرفض، وكجهال المتصوفة وأهل الكلام، وإنما ينفقون في دولة جاهلية بعيدة عن العلم والإيمان إما كفارًا وإما منافقين، كما نفق من نفق منهم على المنافقين الملاحدة، ثم نفق على المشركين الترك، وكذلك إنما ينفقون دائما على أعداء الله ورسوله من الكفار والمنافقين‏.‏

وكلامنا الآن فيما احتجوا به على أنه لابد في الدليل من مقدمتين لا أكثر ولا أقل، وقد علم ضعفه‏.‏

ثم إنهم لما علموا أن الدليل قد يحتاج إلى مقدمات وقد تكفي فيه مقدمة واحدة، قالوا‏:‏ إنه ربما أدرج في القياس قول زائد، أي مقدمة ثالثة زائدة على مقدمتين لغرض فاسد أو صحيح كبيان المقدمتين، ويسمونه المركب‏.‏ قالوا‏:‏ ومضمونه أقيسة متعددة، سيقت لبيان أكثر من مطلوب واحد إلا أن المطلوب منها بالذات ليس إلا واحدًا‏.‏ قالوا‏:‏ وربما حذفت إحدى المقدمات إما للعلم بها أو لغرض فاسد، وقسموا المركب إلى مفصول وموصول‏.‏

فيقال‏:‏ هذا اعتراف منكم بأن من المطالب ما يحتاج إلى مقدمات، وما يكفي فيه مقدمة واحدة‏.‏ ثم قلتم‏:‏ إن ذلك الذي يحتاج إلى مقدمات هو في معنى / أقيسة متعددة فيقال لكم‏:‏ إذا ادعيتم أن الذي لابد منه إنما هو قياس واحد مشتمل على مقدمتين، وأن ما زاد على ذلك هو في معنى أقيسة، كل قياس لبيان مقدمة من المقدمات، فقولوا‏:‏ إن الذي لابد منه هو مقدمة واحدة، وإن ما زاد على تلك المقدمة، من المقدمات؛ فإنما هو لبيان تلك المقدمة‏.‏ وهذا أقرب إلى المعقول‏.‏ فإنه إذا لم يعلم ثبوت الصفة للموصوف، وهو ثبوت الحكم للمحكوم عليه، وهو ثبوت الخبر للمبتدأ، أو المحمول للموضوع إلا بوسط بينهما هو الدليل، فالذي لابد منه هو مقدمة واحدة، وما زاد على ذلك فقد يحتاج إليه وقد لا يحتاج إليه‏.‏

وأما دعوى الحاجة إلى القياس ـ الذي هو المقدمتان للاحتياج إلى ذلك في بعض المطالب ـ فهو كدعوى الاحتياج في بعضها إلى ثلاث مقدمات وأربع وخمس؛ للاحتياج إلى ذلك في بعض المطالب، وليس تقدير عدد بأولى من عدد‏.‏

وما يذكرونه من حذف إحدى المقدمتين لوضوحها أو لتغليط يوجد مثله في حذف الثالثة والرابعة، ومن احتج على مسألة بمقدمة، لا تكفي وحدها لبيان المطلوب، أو مقدمتين أو ثلاثة لا تكفي، طولب بالتمام الذي تحصل به كفاية‏.‏ وإذا ذكرت المقدمات منع منها ما يقبل المنع، وعورض منها ما يقبل المعارضة حتى يتم الاستدلال، فمن طلب منه الدليل على تحريم شراب خاص قال‏:‏ هذا حرام، فقيل له‏:‏ لم ‏؟‏ قال‏:‏ لأنه نبيذ مسكر، فهذه / المقدمة كافية إن كان المستمع يعلم أن كل مسكرحرام، إذا سلم له تلك المقدمة، وإن منعه إياها وقال‏:‏ لا نسلم أن هذا مسكر، احتاج إلى بيانها بخبر من يوثق بخبره أو بالتجربة في نظيرها، وهذا قياس تمثيل، وهو مفيد لليقين، فإن الشراب الكثير إذا جرب بعضه وعلم أنه مسكر، علم أن الباقي منه مسكر؛ لأن حكم بعضه مثل بعضه‏.‏ وكذلك سائر القضايا التجريبية، كالعلم بأن الخبز يشبع والماء يروي وأمثال ذلك إنما مبناها على قياس التمثيل‏:‏ بل وكذلك سائر الحسيات التي علم أنها كلية، إنما هو بواسطة قياس التمثيل‏.‏

وإن كان ممن ينازعه في أن النبيذ المسكر حرام، احتاج إلى مقدمتين ـ إلى إثبات أن هذا مسكر، وإلى أن كل مسكر حرام ـ فيثبت الثانية بأدلة متعددة، كقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كل مسكر حرام‏)‏ و ‏(‏كل شراب أسكر فهو حرام‏)‏‏.‏ وبأنه سئل عن شراب يصنع من العسل يقال البتع، وشراب يصنع من الذرة يقال له المزر، وكان قد أوتي جوامع الكلم فقال‏:‏ ‏(‏كل مسكر حرام‏)‏‏.‏ وهذه الأحاديث في الصحيح، وهي وأضعافها معروفة عن النبي صلى الله عليه وسلم تدل على أنه حرم كل شراب أسكر‏.‏

فإن قال‏:‏ أنا أعلم أنه خمر، لكن لا أسلم أن الخمر حرام، أو لا أسلم أنه حرام مطلقًا، أثبت هذه المقدمة الثالثة وهلم جرا‏.‏

وما يبين لك أن المقدمة الواحدة قد تكفي في حصول المطلوب، أن / الدليل هو ما يستلزم الحكم المدلول عليه، كما تقدم بيانه، ولما كان الحد الأول مستلزمًا للأوسط، والأوسط للثالث، ثبت أن الأول مستلزم للثالث، فإن ملزوم الملزوم ملزوم، ولازم اللازم لازم، فإن الحكم لازم من لوازم الدليل، لكن لم يعرف لزومه إياه إلا بوسط بينهما، فالوسط ما يقرن بقولك‏:‏ لأنه‏.‏ وهذا مما ذكره المنطقيون، وابن سينا وغيره؛ ذكروا الصفات اللازمة للموصوف، وأن منها ما يكون بين اللزوم‏.‏ وردوا بذلك على من فرق من أصحابهم بين الذاتي واللازم للماهية بأن اللازم ما افتقر إلى وسط بخلاف الذاتي، فقالوا له‏:‏ كثير من الصفات اللازمة لا تفتقر إلى وسط، وهي البينة اللزوم، والوسط عند هؤلاء هو الدليل‏.‏

 وأما ما ظنه بعض الناس أن الوسط هو ما يكون متوسطًا في نفس الأمر بين اللازم القريب واللازم البعيد، فهذا خطأ‏.‏ ومع هذا يستبين حصول المراد على التقديرين، فنقول‏:‏ إذا كانت اللوازم منها ما لزومه للملزوم بين بنفسه لا يحتاج إلى دليل يتوسط بينهما، فهذا نفس تصوره وتصور الملزوم يكفي في العلم بثبوته له، وإن كان بينهما وسط، فذلك الوسط إن كان لزومه للملزوم الأول ولزوم الثاني له بينًا، لم يفتقر إلى وسط ثان‏.‏ وإن كان أحد الملزومين غير بين بنفسه، احتاج إلى وسط، وإن لم يكن واحد منهما بينا، احتاج إلى وسطين، وهذا الوسط هو حد يكفي فيه مقدمة واحدة، فإذا طلب الدليل على تحريم النبيذ المسكر، فقيل له‏:‏ لأنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ /‏(‏كل مسكر خمر‏)‏ أو ‏(‏كل مسكر حرام‏)‏ فهذا الأوسط ـ وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم ـ لا يفتقر عند المؤمن لزوم تحريم المسكر له إلى وسط، ولا يفتقر لزوم تحريم النبيذ المتنازع فيه لتحريم المسكر إلى وسط، فإن كل أحد يعلم أنه إذا حرم كل مسكر ، حرم النبيذ المسكر المتنازع فيه، وكل مؤمن يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا حرم شيئًا حرم‏.‏ ولو قال‏:‏ الدليل على تحريمه أنه مسكر، فالمخاطب إن كان يعرف أن ذلك مسكر، والمسكر محرم، سلم له التحريم، ولكنه غافل عن كونه مسكرًا، أو جاهل بكونه مسكرًا، وكذلك إذا قال‏:‏ لأنه خمر، فإن أقر أنه خمر ثبت التحريم، وإذا أقر بعد إنكاره، فقد يكون جاهلًا فعلم، أو غافلًا فذكر، فليس كل من علم شيئًا كان ذاكرًا له‏.‏

ولهذا تنازع هؤلاء المنطقيون في العلم بالمقدمتين، هل هو كاف في العلم بالنتيجة، أم لابد من التفطن لأمر ثالث‏؟‏ وهذا الثاني هو قول ابن سينا وغيره‏.‏ قالوا‏:‏ لأن الإنسان قد يكون عالما بأن البغلة لا تلد، ثم يغفل عن ذلك، ويرى بغلة منتفخة البطن‏.‏ فيقول‏:‏ أهذه حامل أم لا ‏؟‏ فيقال له‏:‏ أما تعلم أنها بغلة‏؟‏ فيقول‏:‏ بلى‏.‏ ويقال له‏:‏ أما تعلم أن البغلة لا تلد‏.‏ فيقول‏:‏ بلى‏.‏ قال‏:‏ فحينئذ يتفطن لكونها لا تلد‏.‏ ونازعه الرازي وغيره وقالوا‏:‏ هذا ضعيف؛ لأن اندراج إحدى المقدمتين تحت الأخرى إن كان مغايرًا للمقدمتين، كان ذلك مقدمة أخرى لابد فيها من الإنتاج، ويكون الكلام في كيفية التئامها مع الأوليين كالكلام في / كيفية التئام الأوليين‏.‏ ويفضي ذلك إلى اعتبار ما لا نهاية له من المقدمات‏.‏ وإن لم يكن ذلك معلومًا مغايرًا للمقدمتين، استحال أن يكون شرطًا في الإنتاج؛ لأن الشرط مغاير للمشروط‏.‏ وهنا لا مغايرة فلا يكون شرطًا‏.‏ وأما حديث البغلة فذلك إنما يمكن إذا كان الحاضر في الذهن إحدى المقدمتين فقط، إما الصغرى وإما الكبرى، أما عند اجتماعهما في الذهن، فلا نسلم أنه يمكن الشك أصلا في النتيجة‏.‏

قلت‏:‏ وحقيقة الأمر أن هذا النزاع، لزمهم في ظنهم الحاجة إلى مقدمتين، لا في الإنتاج؛ لأن الشرط مغاير للمشروط، وليس الأمر كذلك، بل المحتاج إليه ما به يعلم المطلوب سواء كان مقدمة أو اثنين أو ثلاثًا، والمغفول عنه ليس بمعلوم حال الغفلة؛ فإذا تذكر صار معلومًا بالفعل‏.‏ وهنا الدليل هو العلم بأن البغلة لا تلد، وهذه المقدمة كان ذاهلا عنها، فلم يكن عالمًا بها العلم الذي تحصل به الدلالة، فإن المغفول عنه لا يدل حينما يكون مغفولًا عنه، بل إنما يدل حال كونه مذكورًا؛ إذ هو بذلك يكون معلومًا علمًا حاضرًا‏.‏

والرب - تعالى - منزه عن الغفلة والنسيان؛ لأن ذلك يناقض حقيقة العلم، كما أنه منزه عن السنة والنوم؛ لأن ذلك يناقض كمال الحياة والقيومية، فإن النوم أخو الموت؛ ولهذا كان أهل الجنة لا ينامون كما لا يموتون، ويلهمون التسبيح كما يلهم أحدنا النفس‏.‏

/والمقصود هنا أن وجه الدليل العلم بلزوم المدلول له، سواء سمى استحضارًا أو تفطنًا أو غير ذلك، فمتى استحضر في ذهنه لزوم المدلول له، علم أنه دال عليه، وهذا اللزوم إن كان بينًا له، وإلا فقد يحتاج في بيانه إلى مقدمة أو اثنتين أو ثلاث أو أكثر‏.‏ والأوساط تتنوع بتنوع الناس، فليس ما كان وسطًا مستلزمًا للحكم في حق هذا، هو الذي يجب أن يكون وسطًا في حق الآخر، بل قد يحصل له وسط آخر، فالوسط هو الدليل وهو الواسطة في العلم بين اللازم والملزوم، وهما المحكوم والمحكوم عليه، فإن الحكم لازم للمحكوم عليه ما دام حكمًا له، والأواسط ـ التي هي الأدلة ـ مما يتنوع ويتعدد بحسب ما يفتحه الله للناس من الهداية، كما إذا كان الوسط خبرًا صادقًا، فقد يكون الخبر لهذا غير الخبر لهذا‏.‏ وإذا رؤى الهلال، وثبت عند دار السلطان وتفرق الناس فأشاعوا ذلك في البلد، فكل قوم يحصل لهم العلم بخبر من غير المخبرين الذين أخبروا غيرهم‏.‏ والقرآن والسنة الذي بلغه الناس عن الرسول بلغ كل قوم بوسائط غير وسائط غيرهم، لاسيما في القرن الثاني والثالث، فهؤلاء لهم مقرئون ومعلمون، ولهؤلاء مقرئون ومعلمون، و هؤلاء كلهم وسائط، وهم الأوساط بينهم وبين معرفة ما قاله الرسول وفعله، وهم الذين دلوهم على ذلك بأخبارهم وتعليمهم‏.‏

وكذلك المعلومات التي تنال بالعقل أو الحس، إذا نبه عليها منبه أو أرشد إليها مرشد، وأما من جعل الوسط في اللوازم هو الوسط في نفس ثبوتها / للموصوف، فهذا باطل من وجوه كما قد بسط في موضعه، وبتقدير صحته، فالوسط الذهني أعم من الخارجي، كما أن الدليل أعم من العلة، فكل علة يمكن الاستدلال بها على المعلول، وليس كل دليل يكون علة في نفس الأمر وكذلك ما كان متوسطًا في نفس الأمر، أمكن جعله متوسطًا في الذهن فيكون دليلا ولا ينعكس؛ لأن الدليل هو ما كان مستلزمًا للمدلول، فالعلة المستلزمة للمعلول يمكن الاستدلال بها، والوسط الذي يلزم الملزوم ويلزمه اللازم البعيد، هو مستلزم لذلك اللازم فيمكن الاستدلال به، فتبين أنه على كل تقدير يمكن الاستدلال على المطلوب بمقدمة واحدة إذا لم يحتج إلى غيرها، وقد لا يمكن إلا بمقدمات فيحتاج إلى معرفتهن؛ فإن تخصيص الحاجة بمقدمتين دون ما زاد وما نقص تحكم محض؛ ولهذا لا تجد في سائر طوائف العقلاء ومصنفي العلوم من يلتزم في استدلاله البيان بمقدمتين، لا أكثر ولا أقل، ويجتهد في رد الزيادة إلى اثنتين‏.‏ وفي تكميل النقص بجعله مقدمتين، إلا أهل منطق اليونان، ومن سلك سبيلهم، دون من كان باقيًا على فطرته السليمة أو سلك مسلك غيرهم كالمهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان، وسائر أئمة المسلمين وعلمائهم ونظارهم وسائر طوائف الملل‏.‏

وكذلك أهل النحو والطب والهندسة، لا يدخل في هذا الباب إلا من اتبع في ذلك هؤلاء المنطقيين، كما قلدوهم في الحدود المركبة من الجنس والفصل، وما استفادوا بما تلقوه عنهم علمًا إلا عما يستغنى عن باطل كلامهم أو ما / يضر ولا ينفع، لما فيه من الجهل أو التطويل الكثير‏.‏

ولهذا لما كان الاستدلال تارة يقف على مقدمة وتارة على مقدمتين وتارة على مقدمات، كانت طريقة نظار المسلمين أن يذكروا من الأدلة على المقدمات ما يحتاجون إليه، ولا يلتزمون في كل استدلال أن يذكروا مقدمتين، كما يفعله من يسلك سبيل المنطقيين، بل كتب نظار المسلمين وخطبائهم، وسلوكهم في نظرهم لأنفسهم، ومناظرتهم لغيرهم تعليما وإرشادًا ومجادلة على ما ذكرت، وكذلك سائر أصناف العقلاء من أهل الملل وغيرهم إلا من سلك طريق هؤلاء‏.‏

وما زال نظار المسلمين يعيبون طريق أهل المنطق، ويبينون ما فيها من العِيّ واللُّكنَة وقصور العقل وعجز النطق، ويبينون أنها إلى إفساد المنطق العقلي واللساني أقرب منها إلى تقويم ذلك‏.‏ ولا يرضون أن يسلوكها في نظرهم ومناظرتهم، لا مع من يوالونه ولا مع من يعادونه‏.‏

وإنما كثر استعمالها من زمن أبي حامد‏.‏ فإنه أدخل مقدمة من المنطق اليوناني في أول كتابه المستصفى وزعم أنه لا يثق بعلمه إلا من عرف هذا المنطق، وصنف فيه معيار العلم ومحك النظر، وصنف كتابًا سماه القسطاس المستقيم ذكر فيه خمس موازين‏:‏ الثلاث الحمليات، والشرطي المتصل والشرطي المنفصل، وغير عباراتها إلى أمثلة أخذها من كلام المسلمين / وذكر أنه خاطب بذلك بعض أهل التعليم، وصنف كتابا في تهافتهم، وبين كفرهم بسبب مسألة قدم العالم، وإنكار العلم بالجزئيات وإنكار المعاد، وبين في آخر كتبه أن طريقهم فاسدة، لا توصل إلى يقين، وذمها أكثر مما ذم طريقة المتكلمين‏.‏ وكان أولا يذكر في كتبه كثيرًا من كلامهم، إما بعبارتهم وإما بعبارة أخرى، ثم في آخر أمره بالغ في ذمهم، وبين أن طريقهم متضمنة من الجهل والكفر ما يوجب ذمها، وفسادها أعظم من طريق المتكلمين، ومات وهو مشتغل بالبخاري ومسلم‏.‏ والمنطق الذي كان يقول فيه ما يقول، ما حصل له مقصوده، ولا أزال عنه ما كان فيه من الشك والحيرة، ولم يغن عنه المنطق شيئًا‏.‏

ولكن بسبب ما وقع منه في أثناء عمره وغير ذلك، صار كثير من النظار يدخلون المنطق اليوناني في علومهم، حتى صار من يسلك طريق هؤلاء من المتأخرين يظن أنه لا طريق إلا هذا، وأن ما ادعوه من الحد والبرهان هو أمر صحيح مسلم عند العقلاء ولا يعلم أنه مازال العقلاء والفضلاء من المسلمين وغيرهم يعيبون ذلك ويطعنون فيه ‏.‏وقد صنف نظار المسلمين في ذلك مصنفات متعددة، وجمهور المسلمين يعيبونه عيبًا مجملا؛ لما يرونه من آثاره ولوازمه الدالة على مافي أهله مما يناقض العلم والإيمان ويفضي بهم الحال إلى أنواع من الجهل والكفر والضلال‏.‏

والمقصود هنا أن ما يدعونه من توقف كل مطلوب على مقدمتين، لا أكثر، / ليس كذلك، وهم يسمون القياس الذي حذفت إحدى مقدمتيه قياس الضمير، ويقولون‏:‏ إنها قد تحذف إما للعلم بها، وإما غلطا أو تغليطًا، فيقال‏:‏ إذا كانت معلومة، كانت كغيرها من المقدمات المعلومة، وحينئذ فليس إضمار مقدمة بأولى من إضمار ثنتين وثلاث وأربع، فإن جاز أن يدعي في الدليل الذي لا يحتاج إلا إلى مقدمة، أن الأخرى تضمر محذوفة، جاز أن يدعي فيما يحتاج إلى ثنتين أن الثالثة محذوفة، وكذلك فيما يحتاج إلى ثلاث وليس لذلك حد، ومن تدبر هذا وجد الأمر كذلك؛ ولهذا لا يوجد في كلام البلغاء أهل البيان الذين يقيمون البراهين والحجج اليقينية بأبين العبارات من استعمال المقدمتين في كلامهم، ما يوجد في كلام أهل المنطق، بل من سلك طريقهم كان من المضيقين في طريق العلم عقولا وألسنة، ومعانيهم من جنس ألفاظهم، تجد فيها من الرِّكَّة والعِيّ ما لا يرضاه عاقل‏.‏

وكان يعقوب بن إسحاق الكندي، فيلسوف الإسلام في وقته ـ أعنى الفيلسوف الذي في الإسلام، وإلا فليس الفلاسفة من المسلمين، كما قالوا‏:‏ لبعض أعيان القضاة الذين كانوا في زماننا‏:‏ ابن سينا من فلاسفة الإسلام‏؟‏ فقال‏:‏ ليس للإسلام فلاسفة- كان يعقوب يقول في أثناء كلامه‏:‏ العدم فقد وجود كذا، وأنواع هذه الإضافات، ومن وجد في بعض كلامه فصاحة أو بلاغة كما يوجد في بعض كلام ابن سينا وغيره، فلما استفاده من المسلمين من عقولهم وألسنتهم، وإلا فلو مشى على طريقة سلفه وأعرض عما تعلمه من المسلمين، / لكان عقله ولسانه يشبه عقولهم وألسنتهم، وهم أكثر ما ينفقون على من لم يفهم ما يقولونه، ويعظمهم بالجهل والوهم، أو يفهم بعض ما يقولونه أو أكثره أو كله مع عدم تصوره في تلك الحال لحقيقة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وما يعرف بالعقول السليمة، وما قاله سائر العقلاء مناقضًا لما قالوه‏.‏ وهو إنما وصل إلى منتهى أمرهم بعد كلفة ومشقة، واقترن بها حسن ظن، فتورط من ضلالهم فيما لا يعلمه إلا الله، ثم إن تداركه الله بعد ذلك كما أصاب كثيرًا من الفضلاء الذين أحسنوا بهم الظن ابتداء، ثم انكشف لهم من ضلالهم ما أوجب رجوعهم عنهم وتبرأهم منهم، بل وردهم عليهم وإلا بقى من الضلال، وضلالهم في الإلهيات ظاهر لأكثر الناس؛ ولهذا كفرهم فيها نظار المسلمين قاطبة‏.‏

 وإنما المنطق التبس الأمر فيه على طائفة لم يتصوروا حقائقه ولوازمه، ولم يعرفوا ما قال سائر العقلاء في تناقضهم فيه، واتفق أن فيه أمورًا ظاهرة مثل الشكل الأول، ولا يعرفون أن ما فيه من الحق لا يحتاج إليهم فيه، بل طولوا فيه الطريق، وسلكوا الوعر والضيق، ولم يهتدوا فيه إلى ما يفيد التحقيق، وليس المقصود في هذا المقام بيان ما أخطؤوا في إثباته، بل ما أخطؤوا في نفيه حيث زعموا أن العلم النظري لا يحصل إلا ببرهانهم وهو من القياس‏.‏

وجعلوا أصناف الحجج ثلاثة‏:‏ القياس، والاستقراء، والتمثيل، وزعموا أن التمثيل لا يفيد اليقين، وإنما يفيد القياس الذي تكون مادته / من القضايا التي ذكروها‏.‏ وقد بينا في غير هذا الموضع أن قياس التمثيل وقياس الشمول متلازمان، وأن ما حصل بأحدهما عن علم أو ظن، حصل بالآخر مثله إذا كانت المادة واحدة، والاعتبار بمادة العلم لا بصورة القضية، بل إذا كانت المادة يقينية، سواء كانت صورتها في صورة قياس التمثيل أو صورة قياس الشمول، فهي واحدة، وسواء كانت صورة القياس اقترانيًا أو استثنائيًا - بعبارتهم أو بأي عبارة شئت، لاسيما في العبارات التي هي خير من عباراتهم وأبين في العقل، وأوجز في اللفظ والمعنى واحد‏.‏

وجد هذا في أظهر الأمثلة إذا قلت‏:‏ هذا إنسان، وكل إنسان مخلوق، أو حيوان، أو حساس، أو متحرك بالإرادة، أو ناطق، أو ما شئت من لوازم الإنسان، فإن شئت صورت الدليل على هذه الصورة، وإن شئت قلت‏:‏ هو إنسان فهو مخلوق أو حساس أو حيوان أو متحرك كغيره من الناس، لاشتراكهما في الإنسانية المستلزمة لهذه الصفات، وإن شئت قلت‏:‏ هذا إنسان، والإنسانية مستلزمة لهذه الأحكام، فهي لازمة له، وإن شئت قلت‏:‏ إن كان إنسانًا فهو متصف بهذه الصفات اللازمة للإنسان، وإن شئت قلت‏:‏ إما أن يتصف بهذه الصفات وإما ألا يتصف، والثاني باطل، فتعين الأول؛ لأن هذه لازمة للإنسان لا يصور وجوده بدونها‏.‏

وأما الاستقراء، فإنما يكون يقينيا؛ إذا كان استقراء تاما‏.‏ وحينئذ فتكون قد حكمت على القدر المشترك بما وجدته في جميع الأفراد، وهذا / ليس استدلالا بجزئي على كلي ولا بخاص على عام، بل استدلال بأحد المتلازمين على الآخر، فإن وجود ذلك الحكم في كل فرد من أفراد الكلي العام، يوجب أن يكون لازمًا لذلك الكلي العام‏.‏ فقولهم‏:‏ إن هذا استدلال بخاص جزئي على عام كلي ليس بحق، وكيف ذلك، والدليل لابد أن يكون ملزوما للمدلول‏؟‏ فإنه لو جاز وجود الدليل مع عدم المدلول عليه، ولم يكن المدلول لازمًا له، لم يكن إذا علمنا ثبوت ذلك الدليل، نعلم ثبوت المدلول معه، إذا علمنا أنه تارة يكون معه، وتارة لا يكون معه، فإنا إذا علمنا ذلك، ثم قلنا‏:‏ إنه معه دائمًا كنا قد جمعنا بين النقيضين‏.‏

وهذا اللزوم الذي نذكره هاهنا يحصل به الاستدلال بأي وجه حصل اللزوم، وكلما كان اللزوم أقوى وأتم وأظهر، كانت الدلالة أقوى وأتم وأظهر، كالمخلوقات الدالة على الخالق سبحانه وتعالى، فإنه ما منها مخلوق إلا وهو ملزوم لخالقه لا يمكن وجوده بدون وجود خالقه، بل ولا بدون علمه وقدرته ومشيئته وحكمته ورحمته، وكل مخلوق دال على ذلك كله‏.‏

وإذا كان المدلول لازمًا للدليل، فمعلوم أن اللازم إما أن يكون مساويًا للملزوم، وإما أن يكون أعم منه، فالدليل لا يكون إلا أعم منه، وإذا قالوا في القياس‏:‏ يستدل بالكلي على الجزئي، فليس الجزئي هو الحكم المدلول عليه، وإنما الجزئي هو الموصوف المخبر عنه بمحل الحكم، فهذا قد يكون أخص من الدليل وقد يكون مساويا له، بخلاف الحكم الذي هو صيغة هذا، وحكمه الذي أخبر به عنه، فإنه لا يكون إلا أعم من الدليل أو مساويا له، فإن ذلك هو المدلول اللازم للدليل، والدليل هو لازم للمخبر عنه الموصوف‏.‏

/فإذا قيل‏:‏ النبيذ حرام لأنه خمر، فكونه خمرًا هو الدليل، وهو لازم للنبيذ، والتحريم لازم للخمر، والقياس المؤلف من المقدمتين إذا قلت‏:‏ كل النبيذ المتنازع فيه مسكر أو خمر، وكل خمر حرام، فأنت لم تستدل بالمسكر أو الخمر الذي هو كلي على نفس محل النزاع الذي هو أخص من الخمر والنبيذ، فليس هو استدلالا بذلك الكلي على الجزئي، بل استدللت به على تحريم هذا النبيذ، فلما كان تحريم هذا النبيذ مندرجًا في تحريم كل مسكر قال‏:‏ من قال أنه استدلال بالكلي على الجزئي‏؟‏

والتحقيق أن ما ثبت للكلي فقد ثبت لكل واحد من جزئياته، والتحريم هو أعم من الخمر، وهو ثابت لها، فهو ثابت لكل فرد من جزئياتها، فهو استدلال بكلى على ثبوت كلي آخر لجزئيات ذلك الكلي‏.‏ وذلك الدليل هو كالجزئي بالنسبة إلى ذلك الكلي، وهو كلي بالنسبة إلى تلك الجزئيات، وهذا مما ما لا ينازعون فيه، فإن الدليل هو الحد الأوسط وهو أعم من الأصغر أو مساو له، والأكبر أعم منه أو مساو له، والأكبر هو الحكم والصفة والخبر، وهو محمول النتيجة، والأصغر هو المحكوم عليه الموصوف المبتدأ، وهو موضوع النتيجة‏.‏

وأما قولهم في التمثيل‏:‏ أنه استدلال بجزئي على جزئي، فإن أطلق ذلك وقيل‏:‏ إنه استدلال بمجرد الجزئي على الجزئي، فهذا غلط، فإن ‏[‏قياس التمثيل‏]‏ إنما يدل بحد أوسط ـ وهو اشتراكهما في علة الحكم، أو دليل الحكم مع العلة ـ فإنه قياس علة أو قياس دلالة‏.‏

/ وأما ‏[‏ قياس الشبه‏]‏، فإذا قيل به لم يخرج عن أحدهما، فإن الجامع المشترك بين الأصل والفرع إما أن يكون هو العلة أو ما يستلزم العلة، وما استلزمها لم يكن الاشتراك فيه مقتضيًا للاشتراك في الحكم، بل كان المشترك قد تكون معه العلة، وقد لا تكون، فلا نعلم صحة القياس، بل لا يكون صحيحًا إلا إذا اشتركا فيها‏.‏ ونحن لا نعلم الاشتراك فيها‏.‏ إلا إذا علمنا اشتراكهما فيها أو في ملزومها‏.‏ فإن ثبوت الملزوم يقتضي ثبوت اللازم، فإذا قدرنا أنهما لم يشتركا في الملزوم ولا فيها، كان القياس باطلا قطعًا؛ لأنه حينئذ تكون العلة مختصة بالأصل‏.‏ وإن لم يعلم ذلك لم تعلم صحة القياس، وقد يعلم صحة القياس بانتفاء الفارق بين الأصل والفرع، وإن لم تعلم عين العلة ولا دليلها، فإنه يلزم من انتفاء الفارق اشتراكهما في الحكم وإذا كان قياس التمثيل إنما يكون تاما بانتفاء الفارق‏.‏ أو بإبداء جامع، وهو كلي يجمعهما يستلزم الحكم، وكل منهما يمكن تصويره بصورة قياس الشمول‏.‏ وهو يتضمن لزوم الحكم للكلى ولزوم الكلي لجزئياته، وهذا حقيقة قياس الشمول، ليس ذلك استدلالًا بمجرد ثبوته لجزئي على ثبوته لجزئي آخر‏.‏

فأما إذا قيل‏:‏ بم يعلم أن المشترك مستلزم للحكم‏؟‏ قيل‏:‏ بما تعلم به القضية الكبرى في القياس، فبيان الحد الأوسط هو المشترك الجامع، ولزوم الحد الأكبر له هو لزوم الحكم للجامع المشترك، كما تقدم التنبيه على هذا‏.‏ وقد يستدل بجزئي على جزئي، إذا كانا متلازمين، أو كان أحدهما ملزوم / الآخر من غير عكس، فإن كان اللزوم عن الذات، كانت الدلالة على الذات، وإن كان في صفة أو حكم، كانت الدلالة على الصفة أو الحكم، فقد تبين ما في حصرهم من الخلل‏.‏

وأما تقسيمهم إلى الأنواع الثلاثة، فكلها تعود إلى ما ذكر في استلزام الدليل للمدلول، وما ذكروه في ‏[‏الاقتراني‏]‏ يمكن تصويره بصورة ‏[‏الاستثنائي‏]‏، وكذلك ‏[‏الاستثنائي‏]‏ يمكن تصويره بصورة ‏[‏الاقتراني‏]‏، فيعود الأمر إلى معنى واحد، وهو مادة الدليل، والمادة لا تعلم من صورة القياس الذي ذكروه، بل من عرف المادة بحيث يعلم أن هذا مستلزم لهذا علم الدلالة ، سواء صورت بصورة قياس أو لم تصور، وسواء عبر عنها بعباراتهم أو بغيرها، بل العبارات التي صقلتها عقول المسلمين وألسنتهم خير من عباراتهم بكثير كثير‏.‏

و‏[‏الاقتراني‏]‏ كله يعود إلى لزوم هذا لهذا، وهذا لهذا كما ذكر، وهذا بعينه هو ‏[‏الاستثنائي‏]‏ المؤلف من المتصل والمنفصل، فإن الشرطي المتصل استدلال باللزوم، بثبوت الملزوم الذي هو المقدم وهو الشرط على ثبوت اللازم الذي هو التالي، وهو الجزاء، أو بانتفاء اللازم وهو التالي الذي هو الجزاء على انتفاء الملزوم الذي هو المقدم وهو الشرط‏.‏

وأما‏[‏الشرطي المنفصل‏]‏ـ وهو الذي يسميه الأصوليون ‏[‏السبر/ والتقسيم‏]‏، وقد يسميه أيضا الجدليون ‏[‏التقسيم والترديد‏]‏ـ فمضمونه الاستدلال بثبوت أحد النقيضين على انتفاء الآخر، وبانتفائه على ثبوته‏.‏ وأقسامه أربعة، ولهذا كان في مانعة الجمع والخلو الاستثناءات الأربعة وهو أنه إن ثبت هذا انتفى نقيضه وكذا الآخر، وإن انتفى هذا ثبت نقيضه وكذا الآخر، ومانعة الجمع الاستدلال بثبوت أحد الضدين على انتفاء الآخر، والأمران متنافيان، ومانعة الخلو فيها تناقض ولزوم، والنقيضان لا يرتفعان، فمنعت الخلو منهما، ولكن جزاءها وجود شيء وعدم آخر، ليس هو وجود الشيء وعدمه، ووجود شيء وعدم آخر قد يكون أحدهما لازمًا للآخر، وإن كانا لا يرتفعان؛ لأن ارتفاعهما يقتضي ارتفاع وجود شيء وعدمه معا‏.‏

وبالجملة، ما من شيء إلا وله لازم لا يوجد بدونه، وله مناف مضاد لوجوده، فيستدل عليه بثبوت ملزومه، وعلى انتفائه بانتفاء لازمه، ويستدل على انتفائه بوجود منافيه، ويستدل بانتفاء منافيه على وجوده؛ إذا انحصر الأمر فيهما فلم يمكن عدمهما جميعًا، كما لم يمكن وجودهما جميعًا، وهذا الاستدلال يحصل من العلم بأحوال الشيء وملزومها ولازمها، وإذا تصورته الفطرة عبرت عنه بأنواع من العبارات وصورته في أنواع صور الأدلة، لا يختص شيء من ذلك بالصورة التي ذكروها في القياس، فضلا عما سموه البرهان، فإن البرهان شرطوا له مادة معينة، وهي القضايا التي ذكروها، وأخرجوا من الأوليات ما سموه وهميات، وما سموه مشهورات، وحكم الفطرة بهما ـ لاسيما بما سموه وهميات ـ أعظم من حكمها بكثير من اليقينيات التي جعلوها مواد البرهان‏.‏

/وقد بسطت القول على هذا وبينت كلامهم في ذلك وتناقضهم، وأن ما أخرجوه يخرج به ما ينال به أشرف العلوم من العلوم النظرية والعلوم العملية، ولا يبقى بأيديهم إلا أمور مقدرة في الأذهان لا حقيقة لها في الأعيان‏.‏ ولولا أن هذا الموضع لا يتسع لحكاية ألفاظهم في هذا وما أوردته عليهم لذكرته، فقد ذكرت ذلك كله في مواضعه من العلوم الكلية والإلهية، فإنها هي المطلوبة‏.‏

 والكلام في ‏[‏المنطق‏]‏ إنما وقع لما زعموا أنه آلة قانونية، تعصم مراعاتها الذهن أن يزل في فكره، فاحتجنا أن ننظر في هذه الآلة، هل هي كما قالوا، أو ليس الأمر كذلك‏؟‏ ومن شيوخهم من إذا بين له من فساد أقوالهم، ما يتبين به ضلالهم، وعجز عن دفع ذلك، يقول‏:‏ هذه علوم قد صقلتها الأذهان أكثر من ألف سنة وقبلها الفضلاء، فيقال له عن هذا أجوبة‏:‏

أحدها‏:‏ أنه ليس الأمر كذلك، فما زال العقلاء الذين هم أفضل من هؤلاء ينكرون عليهم ويبينون خطأهم وضلالهم، فأما القدماء، فالنزاع بينهم كثير معروف، وفي كتب أخبارهم ومقالاتهم من ذلك ما ليس هذا موضع ذكره، فأما أيام الإسلام، فإن كلام نظار المسلمين في بيان فساد ما أفسدوه من أصولهم المنطقية والإلهية، بل والطبيعية والرياضية كثير، قد صنف فيه كل طائفة من طوائف نظار المسلمين حتى الرافضة،/ وأما شهادة سائر طوائف أهل الإيمان والعلماء بضلالهم، وكفرهم، فهذا البيان عام لا يدفعه إلا معاند، والمؤمنون شهداء اللّه في الأرض ،فإذا كان أعيان الأذكياء الفضلاء من الطوائف، وسائر أهل العلم والإيمان معلنين بتخطئتهم وتضليلهم إما جملة وإما تفصيلا، امتنع أن يكون العقلاء قاطبة تلقوا كلامهم بالقبول‏.‏

الوجه الثاني‏:‏ أن هذا ليس بحجة، فإن الفلسفة التي كانت قبل أرسطو وتلقاها من قبله بالقبول طعن أرسطو في كثير منها وبين خطأهم، وابن سينا وأتباعه خالفوا القدماء في طائفة من أقاويلهم وبينوا خطأهم‏.‏ ورد الفلاسفة بعضهم على بعض أكثر من رد كل طائفة بعضهم على بعض، وأبو البركات وأمثاله قد ردوا على أرسطو ما شاء الله؛ لأنهم يقولون‏:‏ إنما قصدنا الحق، ليس قصدنا التعصب لقائل معين ولا لقول معين‏.‏

والثالث‏:‏ أن دين عباد الأصنام أقدم من فلسفتهم، وقد دخل فيه من الطوائف أعظم ممن دخل في فلسفتهم، وكذلك دين اليهود المبدل أقدم من فلسفة أرسطو، ودين النصارى المبدل قريب من زمن أرسطو، فإن أرسطو كان قبل المسيح بنحو ثلاثمائة سنة، فإنه كان في زمن الإسكندر بن فيلبس الذي يؤرخ به تاريخ الروم الذي يستعمله اليهود والنصارى‏.‏

/الرابع‏:‏ أن يقال‏:‏ فهب أن الأمر كذلك، فهذه العلوم عقلية محضة ليس فيها تقليد لقائل، وإنما تعلم بمجرد العقل، فلا يجوز أن تصحح بالنقل، بل ولا يتكلم فيها إلا بالمعقول المجرد، فإذا دل المعقول الصريح على بطلان الباطل منها، لم يجز رده، فإن أهلها لم يدعوا أنها مأخوذة عن شيء يجب تصديقه، بل عن عقل محض، فيجب التحاكم فيها إلى موجب العقل الصريح‏.‏